الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجود كأنه قيل: الله موجد السموات والأرض، ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهاره لغيره وقيل: هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه، وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازًا مرسلًا أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسموات والأرض، وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الله نور السموات والأرض هادي أهل السموات والأرض وهو وجه حسن، وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي الله تعالى عنه فسر النور بالمدبر فقال: الله نور السموات والأرض يدبر الأمر فيهما، وروى ذلك عن مجاهد أيضًا، وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح.وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية.وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو الله تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بأن ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبىء عن التشبيه وكان كل من المشبه والمشبه به مذكورًا بعينه وهنا لم يشبه الله سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه صاحب الكشاف في مواضع منه وصرح به أهل المعاني، وقيل: المراد به المنزه من كل عيب، ومن ذلك قولهم: امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضًا، وقيل: الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور، ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد: {مَثَلُ نُورِهِ} {وَيَهْدِى الله لِنُورِهِ}.وقيل: نور بمعنى منور وروى ذلك عن الحسن وأبي العالية والضحاك وعليه جماعة من المفسرين، ويؤيده قراءة بعضهم {منور} وكذا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة {مِن نُورٍ} فعلًا ماضيًا {والأرض} بالنصب، وتنويره سبحانه السموات والأرض قيل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه، وقيل: تنوير السموات بالملائكة عليهم السلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء ونسب إلى أبي بن كعب، والتنوير على الأول حسي وعلى الثاني عقلي.وقيل وهو الذي اختاره: تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عز وجل والهادية إلى صلاح المعاش والمعاد، والجملة استئناف مسوق إما لتحقيق أن بيانه تعالى المأذن به قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} [النور: 34] الآية ليس مقصورًا على ما ورد في هذه السورة الكريمة.وإما لتقرير ما في القرآن الجليل من البيان، ويتأتى نحو هذا على بعض الأقوال السابقة في بيان المراد بالنور وهو وجه قوي في مناسبة الآية لما قبلها ولا يكاد يظهر مثله على بعض آخر منها.وذكر العلامة الطيبي في بيان المناسبة كلامًا فيه الغث والسمين إن أردته فارجع إليه.وتخصيص السموات والأرض بالذكر لأنهما المقر المعروف للمكلفين المحتاجين لما يدلهما ويهديهما لما سبق.وقال العلامة البيضاوي بعد ذكر عدة احتمالات في المراد بالنور: إن إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما، وقيل المراد بهما العالم كله كإطلاق المهاجرين والأنصار على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وتعقب بأن هذا من إطلاق اسم البعض على الكل مجازًا وقد اشترط في التلويح أن يكون الكل مركبًا تركيبًا حقيقيًا ولم يثبت في اللغة إطلاق الأرض على مجموع الأرض والسماء والإنسان على الآدمي والسبع.وأجيب بأنه لا يتعين كونه مجازًا لجواز كونه كناية ولو سلم فيما في التلويح غير مسلم أو هو أغلبي، فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى: {لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} [آل عمران: 5] أنه عبر عن جميع العالم بالسماء والأرض، وقال العلامة في شرحه: إنه من إطلاق الجزء على الكل فالمعنى حينئذ الله نور العالم كله {مَثَلُ نُورِهِ} أي أدلته سبحانه العقلية والسمعية في السموات والأرض التي هدى بها من شاء إلى ما فيه صلاحه وحكى هذا عن أبي مسلم وينتظم ذلك القرآن انتظامًا أوليًا، وعن ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم أن المراد بالنور هنا القرآن كما يعرب عنه ما قبل من وصف آياته بالأنزال والتبيين، وقد صرح بكونه نورًا أيضًا في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] وقيل المراد به الحق فقد جاء استعارة النور له كاستعارة الظلمة للباطل في قوله سبحانه: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] أي من أنواع الباطل إلى الحق ووجه الشبه الظهور، ومن أمثالهم الحق أبلج، ويكفى ذلك في جواز الاستعارة ولا تتوقف على تحقق ما في النور من معنى الإظهار في الحق، نعم إذا تحقق ذلك أيضًا فهو نور على نور لكن رجح ضعف تفسيره بما ذكر دون القرآن بأنه يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق.وفي الكشف المراد بالحق الذي فسر النور به ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل، وليس المراد به كون السموات والأرض دليلين على وجود فاطرهما بل ذلك أيضًا داخل في عموم اللفظ انتهى، ويضعف عليه أمر هذا التضعيف، وقيل المراد به الهدى الذي دل عليه الآيات المبينات، وقيل: الهدى مطلقًا، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال: مثل نوره مثل هذاه في قلب المؤمن، وأخرج ابن جرير عن أنس قال: إن إلهي يقول نوري هداي؛ وذكر بعضهم أن تفسيره بالهدي مختار الأكثرين وأن تفسيره بالحق بالمعنى العام يوافقه، وقيل: المراد به المعارف والعلوم التي أفاضها عز وجل على قلب المؤمن وإضافة ذلك إليه سبحانه لأنه مفاضه تعالى، وعن أبي بن كعب والضحاك تفسيره بالايمان الذي أعطاه سبحانه المؤمن ووفقه إليه.وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس تفسيره بالطاعات التي حلى بها جل شأنه قلب المؤمن فيشمل الايمان وسائر الأعمال القلبية الحميدة، وقيل المراد بنوره رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء إطلاق النور عليه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} [المائدة: 15] على قول، وقيل: غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى، والضمير على جميع هذه الأقوال راجع إليه تعالى كما هو الظاهر.وجوز رجوع الضمير إلى المؤمن وروى ذلك عن عكرمة وهو إحدى الروايات وصححها الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى أيضًا عن أبي بن كعب بل أخرج عبد بن حميد وابن الانباري في المصاحف عن الشعبي أنه قال قرأ أبي بن كعب {مَثَلُ نُورِهِ المؤمن} وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن أبي العالية أن أبيًا قرأ {مَثَلُ نُورِهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ} أو قال: {مَثَلُ مَنْ ءامَنَ بِهِ}.وفي البحر روى عن أبي أنه قرأ {مَثَلُ نُورِهِ المؤمنين} وقيل: الضمير راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وروى ذلك جماعة عن ابن عباس عن كعب الاحبار، وحكاه أبو حيان عن ابن جبير أيضًا، وقيل: هو راجع إلى القرآن، وقيل: إلى الايمان، ولا يخفى أن رجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه أو كان لكن كانت دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جدًا لاسيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك، والمراد بالمثل الصفة العجبية أي صفة نوره سبحانه العجيبة الشأن {كَمِشْكَاةٍ} أي كصفتها في الإنارة والتنوير، وقال أبو حيان: أي كنور مشكاة وهي الكوة غير النافذة كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور، وقال أبو موسى: هي الحديدة أو الرصاصة التي تكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة وعن مجاهد أنها الحديدة التي يعلق بها القنديل وهو كما ترى، والمعول عليه قول الجمهور، وعن ابن عطية أنه أصح الأقوال وعلى جميعها هو لفظ حبشي معرب كما قال ابن قتيبة والكلبي وغيرهما، وقيل: رومي معرب، وقال الزجاج كما في مجمع البيان: يجوز أن يكون عربيًا فيكون مفعلة والأصل مشكوة فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها وإلى أن أصل ألفها الواو ذهب ابن جني، واستدل عليه بأن العرب قد نحوا بها منحاة الواو كما فعلوا بالصلاة.وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثاقب، وقيل الفتيلة المشتعلة {المصباح في زُجَاجَةٍ} في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وضم الزاي لغة الحجاز وكسرها وفتحها لغة قيس، وبالفتح قرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد.وقرأ بعضهم بالكسر أيضًا وكذا قرئ بهما في قوله تعالى: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} مضيء متلألءى كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر فوزنه فعلي، وجوز أن يكون أصله درىء بهمزة آخره كما قرأ به حمزة وأبو بكر فقبلت ياء وأدغمت في الياء فوزنه فعيل وهو من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفعه بعض ضوئه بعضًا من لمعانه، وجوز أن يكون من الدرء بمعنى الجري وليس بذاك ومثله ما قيل إنه من درأ إذا طلع بغتة وفاجأ ولا يخفى على المتتبع أن فعيلًا قليل في كلامهم ففي اللباب فعيل غريب لا نظير له إلا مريق لحب العصفر أو ما سمن من الخيل وعلية وسرية وذرية قاله أبو علي، وفي البحر سمع أيضًا مريخ للذي في داخل القرن اليابس وفيه لغتان ضم الميم وكسرها.وقال الفراء: لم يسمع إلا مريق وهو أعجمي وسيبويه عد ذلك من أبنية العرب ولم يثبت بعضهم هذا الوزن أصلًا.وقال أبو عبيد: أصل {درىء} دروء كسبوح فجعلت الضمة كسرة للاستثقال والواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا في عتوعتي فوزنه فعول وكذا قيل في سرية وذرية، وجعل بعضهم سرية من السر وهو النكاح أو الإخفاء والضم من تغييرات النسب فوزنه فعلية كما في الصحاح، والأخفش يرى أنه من السرور وقد أبدلت الراء الأخيرة ياء وهو معهود في الفعل فقد قالوا: تسررت جارية وتسريت كما قالوا: تظننت وتظنيت فوزنه على هذا كما قال الخفاجي فعليلة، وجعل بعضهم ذرية نسبة إلى الذر على غير القياس لإخراجهم كالذر من ظهر آدم عليه السلام.وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك {كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} بفتح الدال وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب وقرأ الزهري {دُرّىٌّ} بكسر الراء وقرأ أبو عمرو والكسائي بالكسرة والهمزة آخره، وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير.وقرأ قتادة أيضًا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن قائد والأعمش ونصر بن عاصم {دريء} بالهمز وفتح الدار، قال ابن جني: وهذا عزيز لم يحفظه منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف في لغة حكاها أبو زيد.وقرأ {دءرى} بتقديم الهمزة ساكنة على الراء وهي من نادر الشواذ وفي إعادة {المصباح} معرفين أثر سبقهما منكرين والاخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال: كمشكاة فيه مصباح في زجاجة كأنها كوكب درى من تفخيم شأنهما ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وباثبات ما بعدهمالهما بطريق الاخبار المنبىء عن القصد الأصلي دون الوصف المنبي عن الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفى، والجملة الأولى في محل الرفع على أنها صفة لمصباح والجملة الثانية في محل الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية كما في مجمع البيان وإرشاد العقل السليم عن الرابط كأنه قيل: فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري {دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة {مباركة} أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها، وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله تعالى فيها للعالمين، وقيل بارك فيها سبعون نبيًا منهم إبراهيم عليه السلام {زَيْتُونَةٍ} بدل من {شَجَرَةٍ} وقال أبو علي: عطف بيان عليها وهو مبني على مذهب الكوفيين من تجويزهم عطف البيان في النكرات، وأما البصريون فلا يجوزونه إلا في المعارف.وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم الإبدال عنها أو بيانها تفخيم لشأنها، وقد جاء في الحديث مدح الزيت لأنه منها، أخرج عبد بن حميد في مسنده.
|